في سنة 1913 وقف على المنصة الكبرى للخطابة في جامعة "ييل" في الولايات المتحدة الامريكية رجل كهل كان مظهره ينم عن رزانة العلم ووقار السنين.
كانت الكلمات التي يلفظها واضحة تتسم بالهدوء والعمق. كان يلقي خطبة وداعية في حفل تخريج مجموعة أطباء.
ومما جاء في خطابه الطويل عبارة أدرك السامعون عمق معناها رغم بساطتها. لقد كانت العبارة "قد يظن الكثيرون ان رجلا مثلي يحتل استاذ في اربع جامعات كبرى, وقام بتأليف كتاب ناجح شهير, ويتمتع بذكاء حاد لايرقى الى مستواه الا القليلون. لكن الواقع غير ذلك فأصدقائي يعلمون اني رجل عادي الذكاء وبسيط جداً"
من هذا الرجل ؟
انه "السير وليم اوسلر" الرجل الذي نشرت سيرة حياته في مجلدين ضخمين بعد وفاته, والذي لقبه ملك انجلترا ب "سير" تقديراً لاعماله في مجال الطب وأهم من ذلك انه مؤسس جامعة "جونز هوبكنز" الشهيرة.
ولكن ماعلاقة هذا الرجل في موضوعنا االذي نسرده ؟ اليك بالآتي ...
في سنة 1871 كان وليم اوسلر طالب طب يتقدم الى الامتحان النهائي .. كان جو القاعة كئيباً تغمره الرهبة من الفشل وهناك استولى القلق على وليم وأخذ يتسائل: ماذا سأفعل ان عجزت عن اقناع اللجنة الفاحصة بكفائتي ؟ هل تضيع من عمري سنوات الدراسة التي قضيتها جاهداً .. هل انسحب من ميدان هذا التخصص فأحول الى نوع آخر من العلوم ؟
وفي اثناء هذا التساؤل تذكر حكمة قد قرأها في كتابٍ للأديب الانجليزي "توماس كارليل". كانت الحكمة تقول: "ليس علينا أن نقلق جرّاء هدف يلوّح لنا باهت الصورة ونطمح لبلوغه في المستقبل وانما علينا ان ننصرف الى مابين ايدينا من عمل في الوقت الحاضر, فتتضح لنا حدوده ونرسم ابعاده ثم نركز جهدنا عليه .. فالمستقبل كفيل بتدبير أمره بنفسه "
هكذا تقدم طالب الطب لامتحانه ففاز بثقة الفاحصين ثم استطاع ان يشق طريقه.
عبارة "الحياة في حدود اليوم" هي سر نجاح هذا الرجل وليتسنى لنا فهم هذه العبارة لنعد الى الاحداث التي مر بها اوسلر
قبل أن يلقي العالم الطبيب خطابه لطلبة الجامعة ببضعة شهور كان يعبر المحيط الاطلسي على متن باخره ضخمه. وقد صعد مره على سطح السفينه وأخذ يراقب قبطانها ويلاحظ كيف يتسنى له قيادة هذا الجبل المتحرك المكتظ بالمسافرين من كل بلد. شاهده وهو يضغط على زر صغير فتدوي أصوات مختلفه ويسمع هدير المحركات ثم تغير السفينه اتجاهها أو تخفف سرعتها. كما شاهده يضغط على زر آخر فيتوقف بعض تلك الآلات أو يهبط حاجز حديدي سميك يحجب النظر.
وقارن وليم اوسلر بين آلات السفينه وعقل الانسان وقال: "ان هذا القبطان لايتعمل من آلاته الا ماهو بحاجة اليه في اللحظة الراهنه او اليوم الحاضر, وهو يسير مطمئناً الى نجاحه في بلوغ غايته فلماذا لايفعل الانسان مثل ذلك ؟ لماذا لايتخلى عن القلق بشأن ماهو أبعد من يومه ! ألأيس بوسعه ان يخترع زراً يضغطه فيهبط في نفسه ستاراً حديدي على مايمكن التفكير به بشأن المستقبل ! ولماذا لايوصد الباب خلف الماضي" هذا ماأوضحه وليم في خطابه لطلابه المتخرجين.
لكن كيف يجوز أن لايفكر المرء في المستقبل ويتاهب لما يمكن ان يقع ؟ لم يغب ذلك عن السير وليم فأكمل حديثه ..
"لست أعني بما قلت شيئاً من الاتكاليه او عدم الاستعداد للأيام المقبله ولكني قصدت خير الطرق لذلك الاستعداد هي ان يركز المرء افكاره وحماسته على ان ينهي عمل اليوم الحاضر بأفضل واكمل وجه ولأن هذا هو الطريق الأمثل للاستعداد للغد"
قصة أخرى وردتني في رسالة حملها البريد لي من مكانٍ ما في أوروبا في سنة 1945 كتب لي بها السيد تيد مايلي:
"انني اعمل ضابطاً في لجنة "سجلاّت القبور" الملحقة بفرقة المشاة الامريكيه رقم 94 , وتنحصر المهمه في نتظيم كشوف ولوائح بالجنود القتلى والمفقودين , ولكنني اشارك في نبش الجثث التي تدفن في ميدان المعركه كسباً للوقت ولاشك ان هذه الجثث تضم قتلانا وقتلى العدو دون تمييز" وبالاضافه الى هذا العمل كان علي القيام بالتحري عن مخالفات القتلى الشخصية وجمعها كي تراسل السلطات ذويهم , لذلك كان يساورني القلق على الدوام وكنت اتسائل:
"ها سيكتب لي النجاة بعد تقليب هذا العدد الكبير من الجثث فقد كنت اشاهد الموت في كل لحظة امام عيني" وحينذاكاصابتني حالة نفسية متوتره فحطّمني القلق وقد خسرت 34 رطلاً من وزني وهزل جسمي حتى اصبت اصفر الجلد وزاد الهلع في نفسي حتى خشيت ان اصاب بالجنون واصبحت اشك في استطاعتي ان اكون رجلاً عاديا معافى بعد الحرب.
انتهى بي الحال في مستشفى حربي وهناك وجه لي الطبيب نصيحة لن انساها قال "اسمع ياتيد انك تعرف الساعة الرملية فيها آلاف الحبات من الرمل تنفذ عبر ثقب صغير الى القارورة السفلى وحياتنا جميعاً انا وانت مثل حبات الرمل. ان حبة واحده هي التي تسقط ولايستطيع احد دفع اكثر من حبة واحدة اذا شاء المحافظة على انتظام عمل الساعة وهكذا نحن
يفيق الواحد منا في الصباح ليجد كومة من الاعمال بإنتظاره فإذا لم ينته منها واحداً تلو الاخر , أي حبة حبة وببطء فإنه سيعرض كيانه الجسماني للخلل , لاترهق نفسك بالقلق على الغد فإن حباته ستسقط من تلقاء نفسها"
بهذه الطريقة استعدت مرحي للحياة وعدت رجلاً طبيعيا لا اسمح للهموم ان تقلقني ....
للموضوع تتمه ..................
المصدر
كتاب "دع القلق وابدأ الحياة"
للمؤلف دايل كارنيجي