أغبى التصريحات في التاريخ!
عبدالله المغلوث
في عام 1899 صرح تشارليز دول، مدير مكتب براءات الاختراع في الولايات المتحدة الأمريكية، أن "كل الأشياء التي يجب اختراعها تم اختراعها". وقد تناقل تصريحه الركبان ما بين مصدقين ومشككين. ودافع أنصاره عنه بضراوة متكئين على خبرته وتخصصه. لكن الاختراعات اللاحقة دحضت مزاعمه. واتضح أن العالم مازال يتسع لاختراعات جديدة ربما أكثر من سابقاتها كما ونوعا. ودخل تصريح تشارليز دول قائمة أكثر التصريحات غباء في التاريخ. فاليوم يعلن نفس مكتب براءات الاختراع الذي كان يديره تشارليز أنه يصدر سنويا نحو 150 ألف براءة اختراع لأفراد وشركات. وأصدر حتى فبراير 2008 نحو 8 ملايين براءة اختراع.
وفي عام 1927 قال هاري موريس وارنر، مؤسس استوديو وارنر بروذرز الشهير للأفلام: "من المجنون الذي يود أن يسمع الممثل يتكلم في الأفلام؟"، وذلك ردا على محاولات السينمائيين المتزايدة آنذاك لاستنطاق الممثلين في الأفلام وإنهاء حقبة الأفلام الصامتة. ولم تصمد تصريحات وارنر طويلا. ففي نهاية العشرينات ومع تطور التقنيات السينمائية انتشرت الأفلام الناطقة، وشيئا فشيئا اندثرت الأفلام الصامتة. وصار تصريح السينمائي الشهير طرفة يتندر بها السينمائيون وغير السينمائيين على حد سواء.
أما في عام 1943 فقد تحدث ثوماس واتسون، رئيس شركة آي بي إم التقنية في مؤتمر صحفي قائلا: "إن الأسواق لا تحتاج إلى أكثر من 5 أجهزة كمبيوتر في المستقبل". ولم يكد العالم ينسى هذا التصريح، الذي تبين عكسه تماما، حتى خرج عام 1977، كين أولسن، رئيس شركة ديجتال إيكويبمنت، بتصريح آخر يقول فيه: "لن يكون هناك مستقبل لأجهزة الكمبيوتر الشخصية. لا أحد يرغب في استخدام أجهزة الكمبيوتر في المنزل. ستتذكرون كلامي جيدا". وفعلا تذكرنا كلام أولسن، لكن ليس للزهو به والتأكيد على بعد نظره وقدرته على استشراف المستقبل، بل لأخذ العظة والعبرة منه حيث أصبح أحد أكثر التصريحات الصحفية سذاجة في التاريخ. ففي عام 2009 وصلت مبيعات أجهزة الكمبيوتر المحمولة (اللاب توب) إلى نحو 177 مليون جهاز. وفي عام 2010 فقط بلغت مبيعات أجهزة الكمبيوتر اللوحية (آي باد) ما يقارب 15 مليون جهاز، ناهيك عن الأجهزة اللوحية الأخرى. وظل هذا التصريح يطارد أولسن حتى وفاته في فبراير 2011 عن عمر يناهز (84 عاما) رغم اعتذاره عنه غير مرة.
إن التصريحات السابقة رغم أنها صدرت من متخصصين ورواد في مجالاتهم إلا أنها كانت نقطة سوداء في تاريخهم. فقد كان الخطأ المشترك بين هذه التصريحات هو الجزم المطلق وادعاء امتلاك الحقيقة وعدم ترك مساحة لاحتمالات أخرى. لا يوجد أحد على هذه الأرض يمتلك الحقيقة الكاملة. دراساتنا وخبراتنا تمنحنا القدرة على التوقع والاقتراح والنقاش والتوصية. لكن لا تمنحنا القدرة على الاستبداد بالرأي. إن العالم المتقدم بدأ يتعامل بجدية مع هذه الآراء القاطعة والجازمة من خلال التصدي لها في المناهج والندوات والبرامج والسلوك اليومي. في المقابل، نجد أن هذه الآراء التي تزعم امتلاك الحقيقة تتفشى في مجتمعاتنا العربية على نحو محزن دون أن تجد من ينبري لها. الآراء الأحادية مصيرها واحد هو التندر والتهكم عليها لاحقا. إننا في زمن تتعدد فيه مصادر المعلومات والمعرفة وتنتشر فيه وسائل التقصي والبحث فلا مكان للرأي الواحد. ثمة ألم يجتاحني عندما أقرأ آراء جازمة قاطعة بعد أن كشف لنا التاريخ مدى وهنها وضعفها. يقول أولسن الذي صرح سابقا بعدم وجود مستقبل لأجهزة الكمبيوتر الشخصيية أنه "يتمنى لو يستطيع إزاله تصريحه من التاريخ". لكن في الحقيقة لا توجد ممحاة بوسعها أن تمسح ما نتفوه به أو نطلقه سواء عبر وسائل الإعلام أو مجالسنا. إننا يجب أن نتجنب الآراء القطعية لأنها ستطاردنا في حضورنا وغيابنا. وعلينا ألا نسمح لأي رأي بأن يوقف طموحاتنا أو محاولاتنا بغض النظر عن مكانة هذا الشخص وقيمته. تخيلوا لو أن إدوين دراك أخذ تصريحات أفضل حفارين في أمريكا عام 1859 على محمل الجد والتي تزعم أنه لا يوجد نفط في باطن الأرض استنادا إلى خبرتهم الطويلة في الحفر. فحديثهم لم يثبط عزيمته بل زاده إصرارا على الاستمرار في رحلة البحث. فبعد أسابيع قليلة استعان بحفارين آخرين في تيتوسفيل في ولاية بنسيلفانيا واكتشف النفط بكميات كبيرة ودشن عصرا جديدا للتنقيب تجاريا كان له أبلغ الأثر في ازدهار العالم بأسره. إننا يجب ألا نكف عن الاستكشاف والتنقيب والمحاولة مهما حاصرتنا الآراء المثبطة. إن التاريخ لن يتهكم عليك لأنك حاولت. لكن سيتهكم على أولئك الذين جزموا أنهم ملاك الحقيقة.